كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبعد ذلك حدثنا سيدنا جعفر الصادق عن كبيرة ترك الصلاة، ونعرف أن الصلاة هي إعلان دوام الولاء للإله الواحد، فأنت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله مرّة واحدة في العمر، وتُزكيّ إن كنت واجدًا وقادرًا مرّة واحدة في السنة، وتحجُ مرّة واحدة في العمر، وتصوم شهرًا واحدًا في السنة، وإن كنت مريضًا لا تصوم وقد يسقط عنك هذا الركن إذا كان هناك مرض لا يرجى شفاؤه أو أصبح الشخص لا يقوى على الصوم لكبر سنه، وإذا كنت فقيرًا لا تزكي، فقد سقطت الزكاة عنك أيضًا، وإن كنت غير مستطيع فلا تحج ويسقط عنك الحج.
ها هي ذي ثلاثة أركان لك عذر إن لم تفعلها. وبقي ركنان اثنان من أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والصلاة، وشهادة أن لا إله إلا الله يكفي أن تقولها في العمر مرة، فماذا بقي من أركان الإسلام؟ بقيت الصلاة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «الصلاة عمود الدين».
إذن فترك الصلاة معناه: أنه تمرد على إعلان العبودية والولاء للحق. وقد طلبها الله في اليوم خمس مرات، وحتم الجماعة فيها في يوم الجمعة في الأسبوع. لماذا؟ حتى يرانا كل العبيد لله عبيدًا لله. فلا يعبد واحد ربنا سرًا وبعد ذلك لا يرى أحد منا أحدًا فكلنا نسجد لله ولابد من إعلان الولاء لله، فيوم تُترك الصلاة ينعدم إعلان الولاء له سبحانه.
ومن العجيب أن الصلاة فرضها الله عليك بأنك تذهب له خمس مرات في اليوم، هذا بالأمر والتكليف، وإن لم تذهب تأثم إنه ما أغلق الباب اذهب له في أي وقت تجده في استقبالك في أي مكان تقف وتقول: الله أكبر تكون في حضرة ربنا، وقلنا سابقًا: إن من له السيادة في الدنيا حين تطلب لقاءه تقدم طلبًا حتى تلقاه. ويحدد لك الميعاد، وبعد ذلك يسألك أحد رجاله: ستتكلم في ماذا. وقد يقف المسئول أو السيد في الدنيا وينهي المحادثة. لكن ربنا ليس كذلك. أنت تذهب له في أي وقت وفي أي زمان وتطيل كما تحب ولن ينهي المقابلة إلا إذا أنهيتها أنت. ولذلك يقولون:
حسبُ نفسي عزًا بأني عبد ** يحتفي بي بلا مواعيد ربّ

هو في قدسه الأعزُّ ولكن ** أنا ألقَى متى وأيْن أُحِبّ

صحيح هو يأمرني أن ألقاه خمس مرات في اليوم، لكن الباب مفتوح للقائه في أي وقت، وأوضحنا سابقًا- ولله المثل الأعلى- هب أن صنعة تعرض على صانعها خمس مرات كل يوم- أيوجد فيها عطب؟ لا.
وأنت تعرض على خالقك وصانعك كل يوم خمس مرات. والصنعة العادية يُصلحها صانعها بسلك أو بمسمار أو بوصلة يضعها، أما أنت المخلوق لله وربّك غيب وهو يُصلح جهازك بما يراه مناسبًا.
وبعد ذلك بقي من الكبائر نقض العهد وقطيعة الرحم، ونقض العهد لا يجعل إنسانًا يثق في وعد إنسان آخر. فينتشر التشكك في نفوس الجماعة الإيمانية بعضها من بعض، والوعد قد يحل مشاكل للناس المعْسرين، فعندما يقول قادر لغير قادر: أعدك بكذا. ويعطيه ما وعده به، فإن وعده المدين بسداد الدين وأخلفه مرة فلن يصدقه بعد ذلك. وإن وعده وصدق ثم وعده وصدق ثم وعده وصدق، يصبح صادقًا، وكل ما عند الناس يصبح عنده، ولذلك يقولون: من يأخذ ويعطي يكون المال ماله.
وبعد ذلك تأتي كبيرة قطيعة الرحم: لأن الحق سبحانه وتعالى اشتق للرحم اسمًا من اسمه فهو القائل في الحديث القدسي: «أنا الرحمن خلقت الرحِم وشققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته».
ونعلم جميعًا حكاية سيدنا معاوية عندما دخل عليه الحاجب وقال له: يا أمير المؤمنين هناك واحد بالباب يقول: إنه أخوك، فيقول معاوية للحاجب: أي إخوتي هو؟ ألا تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب: إنه يقول: إنه أخوك. فلما دخل الرجل، سأله معاوية: أأنت أخي؟ قال: نعم فقال معاوية: وأي إخوتي أنت؟. فقال: أنا أخوك من آدم! فقال معاوية: رَحِمٌ مقطوعة، لأكونن أول من وصلها.
تلك هي الكبائر التي ذكرها سيدنا جعفر الصادق وهي تمثل ما يمكن أن يكون نقضًا للمجتمع كله من أساسه، فكل كبيرة تنقض ناحية من نواحي المجتمع، وهذا يخالف الإيمان، لأن الإيمان هو منهج إن اتبعناه جميعًا عشنا في أمن. والإسلام أيضًا منهج إن اتبعناه جميعًا عشنا في سلام، فيوم تأتي- أيها المسلم- كبيرة من هذه الكبائر فأنت تزلزل بها ركنًا من الأركان، وحينئذ لا يكون هناك أمان ولا سلام، ولذلك يقول الحق سبحانه: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وعندما ندقق في كلمة {تُنْهَوْنَ عَنْهُ} نلتفت إلى أن أصل الفضائل: أن تسلب نقيصة وأن توجب كمالًا، فقبلما توجب الكمال بالأوامر اسلب النقائص بالنواهي؛ ولذلك يقولون: التخلية قبل التحلية.
{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} و{نكفر} أي نستر، لأن الكفر هو الستر، وقلنا: إن التكفير للذنوب إماطة للعقاب، والإحباط إماطة للثواب، {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلًا كَرِيمًا} فلن نسقط عنكم العذاب فقط بل نعطيكم المدخل الكريم- يقول الحق: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقد كان يكفي ألا تعاقب، لكنك حينما تتجنب الكبائر لا يسقط عنك العقاب فقط، بل يدخلك الله مدخلًا كريمًا، والمدخل الكريم يتناسب مع من يدخلك في مدخله، فانظر، إلى المدخل الكريم من الله وما شكله؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}».
وبذلك تنتقل الصورة إلى شيء جديد، وهو: التوازن بين أفراد الجنس الإنساني، كل هذا الكلام كي يُحفظ الجنس الإنساني مع بعضه، وبعد ذلك يريد الله أن يقيم توازنًا ومصالحة إيمانية بين نوعي الجنس الإنساني فيه ذكورة وفيه أنوثة. ونعرف أن كل جنس من الأجناس لا ينقسم إلى نوعين إلا إذا كان فيه قدر مشترك يجمع النوعين من الجنس، وفيه شيء مفترق يجعل هذا نوعًا وهذا نوعًا ولو لم يكن فيه شيء مفترق لما كان نوعين، إذن فما دام الجنس الواحد نوعين فلابد أن يجمعهما في شيء مشترك، وما دام الجنس الواحد قد انقسم لنوعين فكل نوع له مهمة. والذكورة والأنوثة هما نوعان لجنس البشر، فالذكر والأنثى يشتركان في مطلوبات الجنس، وبعد ذلك ينفردان في مطلوبات النوع، وبعد ذلك كل نوع ينقسم إلى أفراد. والأفراد أيضًا ليسوا مكررين، بل فيه قدر مشترك يجمع كل الأفراد، وبعد ذلك كل واحد له موهبة وله ريادة وله شطارة في مجال كذا أو كذا، وبذلك يتكامل أفراد الجنس البشري.
وما دام الجنس البشري قد انقسم لنوعين، فيكون للرجال خصوصية وللنساء خصوصية. وربنا سبحانه وتعالى لا يأتي حتى في البنية العامة ليجعل الجنسين مستويين في خصائص البنية، صحيح البنية واحدة: رأس وجذع وأرجل، إنما يأتي ويميز بنية كل نوع بشيء، الرجل له شكل مميز، والمرأة لها شكل مميز. ولذلك فالذين يقولون: نسوي الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل نقول لهم: المرأة لها تكوين خاص، والرجل له تكوينه الخاص، فإذا سويت المرأة بالرجل أعطيت لها مجالات الرجل، وبقيت مجالاتها التي لا يمكن للرجل أن يشاركها فيها، معطلة لا يقوم بها أحد. إذن فأنت حملتها فوق ما تطيق وأنت مخطئ؛ لأنك تأتيها بمتاعب أخرى.
إن الحق سبحانه وتعالى ساعة يخلق جنسًا، وساعة يقسم الجنس إلى نوعين، يوضح: تنبهوا أن كل نوع له مهمة وفيه شيء مشترك، المشترك بين الأنوثة والذكورة، ما هو؟ إن هذا إنسان وذلك إنسان، وإن هذا من ناحية الإيمان مُطالب منه أن يكون له عقيدة إيمانية ولا أحد يسيطر على الآخر في عقيدته الإيمانية، الاثنان متساويان فيها، ولا يفرضها واحد على الآخر، وضرب الله سبحانه وتعالى لنا مثلًا على تشخص الذكورة وتشخص الأنوثة في الأمر الأولى للإيمان، وإن اختلفت في الأمر الثانوي للأحكام، فيقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
وهذان رسولان، ومع ذلك لم يستطيعا إقناع زوجتيهما بالتوحيد إذن فكل إنسان له حرية العقيدة والتعقل، ولا أحد تابع لآخر في هذه المسألة أبدًا. ويقول الحق: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].
فرعون الذي ادعي الألوهية لم يقدر أن يرغم إمرأته على أن تكفر والحق سبحانه وتعالى قال فيها: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11].
إذن ففي مسألة العْقيدة الكل فيها سواء، الذكورة والأنوثة، فيها عقل وفيها تفكير. ولعل المرأة تشير برأي قد يعزّ على كثير من الرجال. ولنا المثل من زوج رسول الله (أم سلمة) وموقفها في صلح الحديبية فعندما يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليعقد المعاهدة، ويحزن أصحابه ومنهم عمر رضي الله عنه الذي قال: أنقبل الدنية في ديننا فيقول له سيدنا أبو بكر: الزم غرزك يا عمر إنه رسول الله. فدخل رسول الله مغضبًا، طبعًا من حمية عمر وحزن الصحابة، لأنها مسألة تعز على النفس البشرية، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب فيجد أم سلمة فيقول لها: هلك المسلمون «ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي؟ فقالت يا رسول الله: لا تلمهم فإنه قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصْلح ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج إليهم ولا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك».
لقد وقّع رسول الله صلح الحديبية وانتهت المسألة. ولكن رحمة الله بالمؤمنين الذين وقفوا أمام رسول الله في هذه المسألة، ورحمة الله لهم بأم سلمة أوضح لهم الرسول: سأبين لكم: أنتم لو دخلتم مكة وفيها أناس مسلمون لاتعرفونهم إنهم يكتمون إيمانهم وإسلامهم، والبيت الكافر قد يكون فيه واحد مسلم، وقد تقتلون أناسًا مسلمين لا تعرفونهم فتصيبكم معرة أي ما تكرهونه ويشق عليكم مصداقًا لقول الحق تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
لو تزيلوا أي لو تميز المؤمنون في منطقة لعاقبنا الكافرين عقابا شديدًا. إذن لقد أوضح لهم العلة، فرضي الكل، ولنا أن نلتفت إلى أن المسألة جاءت من سيدتنا أم سلمة، وهذا دليل على أن الله لا يمنع أن يكون لامرأة عقل وتفكير ناضج، ولذلك نجد القرآن يؤكد ذلك في قصة بلقيس، لقد فكرت بلقيس في الرجل الآتي ليزلزل ملكها؛ يا ترى هل هو طالب ملك، فجاء على لسانها في القرآن الكريم.
{قَالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 29- 32].
فماذا قال القادة؟ قالوا: لا، هذه ليست مسألتنا، وجاء القرآن بقولهم: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33].
كان رجل الحرب يُؤتمر فقط، يحارب أو لا يحارب، لكن الذي يقدر هذا هم الساسة الذين ليس عندهم حمية وحركية القتال. نقول لقائد الجند: أنت تنتظر الأمر، وتجعل الساسة الهادئين يفكرون في عواقب الأمور؛ لذلك قال قادة الجند لبلقيس: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} لقد وضعوا الأمر في رقبتها وهي امرأة، ففكرت: سأجرب وأختبره وأنظر أهو طالب مُلك أم صاحب دين- فأرسلت هدية له، فلما جاءته الهدية جاء القرآن بما قاله سيدنا سليمان عندما تلقي الهدية: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36].
فعرفت بلقيس أن المُلْك ليس هدفه، وبعد ذلك عرفت أنه صاحب رسالة، فقالت: أذهب له وأسلم، انظر أداء العبارة القرآنية عندما تصور إيمان ملكه قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].